كلٌ منا سعيدٌ بما له (قلبه، أعضائه، عقله حتى وإن بدا مجنونا في نظر الآخر، رجليه، يديه ) أجل!! يديه، كل واحد فرح بهذه اليد.
" تشوب" الإله العجوز، وسيد الآلهة و محقق الرغبات في سوبارتو، وسيد الطقس والمطر يسترق نظرات خاطفة هنا وهناك، مهموم على غير العادة، به رغبةٌ غريبة في تصفح الأيدي التي تُرفع في معابده المنتشرة في الجبال، و ما بين الثعبانين الأزرقين وحباً في الحقيقة ودرجة صدق هذا التعبد، ليطفئ المعمعة الدائرة في داخله، ينظر بشزر وقنوط إلى جميع الأشياء من حوله.
لحظتئذ تأوه رعداً وعواصف، تعويذة طقسه المعروفة لتبليل الأرواح الآسنة، فقد تنادت الجموع، وهاجت وبدأت التحضيرات على أشدها في المعابد المبعثرة في بلد الحجل.
ينتابه إحساس غريب حبيس صدره حول هذه الأيدي، إنه يشعر بها تخونه يرى فيها كهوفاً مظلمة وفقاعات النهاية، إنها تكذب عليه.
دعا الكهان الرعية - وبقية الآلهة الأقل شأناً - إلى يوم نذور في غير أوانه، إذ تقدم فيها الأضاحي عادة ليقوم " تشوب " بوظيفته الإلهية بهطل المطر والخيرات كما حدث في سنة البكاء وقبلها سنة العويل.
في ذلك النهار تلبّدت السماء وتمرّدت على غير عادتها، السماء ملعونة، الآلهة مستغربة للون السماء ، فقد غيّرت جلدها كما السحلية والأفعى من الصفاء إلى لون الـدم (الـدم!).
سماءٌ تتحول شيئا فشيئاً، والأسود والتماثيل الواقفة في المعبد تفتح أفواهها خائفة.
الرعية هرعت هلعة إلى المعبد، فالخوف أجتاحهم واصطكت لهولها عظامهم واصطفت النسوة يرفعن النذور على رؤوسهن تاركين جرار التبرك بالقرب منهم مرددات ألحان وتراتيل التعبد :
" يا إلهنا..... يا سيد سمائنا... انزل المطر... وخذ منا البركات"
تهامس الناس والكهان وحدقوا ببعضهم واستغربوا لون السماء و تخليها عن زرقتها ومقاربتها السواد المائل إلى الأحمر الدامي.
لا بدًّ أن في الأمر خطب ٌٌ جلل، هكذا ردد الكل في سرهم مع ما حملوا من الخوف والترقب.
النسوة والرجال والأطفال يرتلون، ويرفعون أياديهم، يحاولون تقريبها من السماء التي لم تعد سماء، وكأنها ستهبط عليهم، وتنطبق عليهم، طلب الكهان منهم أن يدخلوا الواحد تلو الآخر، كاشفين عن أيديهم وأكفهم أمام الإله، ازداد اللغط والهمس فيما بينهم، وكل واحدٍ يمعن التبصر في الخطوط المرسومة على باطن كفه، و في داخله يرغب أن يضيف الإله لعمره عمراً مديداً، بينما النسوة يشرن إلى أمكنة خاصة في باطن مجداف جسدهن، تظهر ارتباطهن بمن تحب أو بعدد الأولاد الذين ستنجبهم.
بينما الإله العجوز أدرك في أواخر ألوهيته بأن عباده يحملون أشياءً أخرى غير الحب والتعبد، فأمر بفتح الأكف كلها ليقرأها، و يتقصاها...
( ربما منذ ذاك الوقت انتشرت عادة قراءة الكف ؟! ).
تدافعوا لدخول المعبد ولكن الأصول تقتضي، النذر الأول يقدمه الحاكم، و يقبله الإله من الحاكم بأمره على الأرض والعباد ، دخل الحاكم حاملا عصا الحكم، وضعها جانبا
ورفع يديه : يا إلهي دمت لي مرشدا وواعظا حكيما ً.
عندها رأى الإله يديه جيداً، وهو ما لم يثر انتباهه سابقا ً، آثار كذبه بادية.
يدٌ ناعمة ٌ تمرغت بالإفساد باسمه على هذه الأرض، تراءت له صور النسوة اللواتي اغتصبهن، والنهود التي قدمها نذوراً لشهواته، كم مرة تلوثت وأمرت هذه اليد باقتراف المظالم، تأفف، واغتاظ في أمره !!.
تلبّدت السماء احمراراً، أكثر من ذي قبل، بينما الحاكم في سره يطالبه بأن يديم له الحكم والجاه، ومن تكون أصلا ؟! لست سوى صخرة صماء، اضحك بها على السذج .
لاحظت الرعية ما آلت إليه حالة السماء، بعد دخول حاكمهم فازداد اضطرابها وخوفها، وتتالى دخول أعيان القصر، وتكرر المشهد ذاته أمام بصره ؛ وهو يرى الأكف التي رفعت مراراً باسمه ومارست بها ابشع ما يمكن أن يخطر ببال آلهة اللعنات وشياطين العالم السفلي.
ثم جاء دور الرعية من امرأة ترفع يديها وتتضرع بحضور زوجها أن يحفظ لها عائلتها، بينما في سرها تدعو عليه، لتعود إلى شيطان الرغبة مع عشيق خفي يظهر كلما غاب الزوج، وهو ما تكشفه وتفضحه صفحات الأكف أو أخرى تمارس باليد التي تعبد بها كل أصناف المحرمات، وآخر يتلاعب بتجارته كما يتلاعب بكرامته، وذاك الذي كلما تناهى إلى سمعه صوت أغنية أحسّ في نفسه بأنه بمائة رجل ولكنه في حقيقته ليس سوى نصف رجل لأن نصفه الآخر كان منهوباً ضريبة الخنوع ، كلما رأى الإله يداً زادت السماء في دمويتها، أناس يربون الخوف معهم أينما حلوا، هذه الهامات التي ترفع في حضرتي، انحنت لأبسط الأمور، و الأكف تخلت عن وظيفتها في رد الظلم .
ما هذا الذي خلـّفته ورائي أيادٍ آسنة، وأخرى منحنية دائما تشبه الأرجل، كبار يكذبون وصغار خائفون والأيدي إما خائفة أو تمارس الخطيئة كواجب يومي، الخوف يرقد بينهم كإلهٍ آخر.
أدرك تشوب
بأن هذه الأرض لم تعد تنفعه، لأنها لم تعد تنفع نفسها
فالأيدي التي تستكين للظلم، لا تستحق أن ترفع في حضرتي !!
كيف ستقف السماء وتظلل الأرض فوق هذه الأكتاف المنكسة والأيدي التي غذتها طحالب الموت
ولن يحمل لهم معاطف الحياة مجدداً و سيخبر الولاّدة أن لا تمر من هنا لأن هذا الرحم لا ينجب كائنات الجغرافية والتاريخ
وهؤلاء الكتاب والنساخ الذين يكذبون على هذه الـرُّقم والألواح الطينية قد كتبوا تاريخ الحاكم بأسمي وليس عني، سأنشر في هذه الأرض ثعابين الكره وسحالي الحقد، لتعيث فيها فساداً، عندها سما إلى عليائه، وشق السماء، ونفخ من فمه لعنةً أخرى، ونثرها رماداً فوق هذه البلاد – لعنة الخيانة – لذا نجد هذا الرماد والغبار منثورا على مر العصور، ففي كل عصر تمر فيه سوبارتو وتقوم بانتفاضة أو...أو..
حتى يخرج " بـكـو " وفي داخله غبار الخيانة " لعنة تشوب "، ليرشه على شعبه مستعيدا به اللعنة الإلهية.
وهذا المشهد مازال واضحا في الأزرقين
لذلك لا زالت سوبارتو تحترق.
هوامش:
- الإله تشوب: هو سيد الآلهة الحورية إله الطقس والمطر والصواعق.
- سوبارتو: الأمكنة التي يعيش فيها الحجل و الكرد والثعبانين الأزرقين /دجلة والفرات/.
- بكو: رمز الخيانة في ملحمة العشق " مموزين " لأحمد خانى.